علم النفس المدرسي: التمدرس واكتساب المعارف

 علم النفس المدرسي: التمدرس واكتساب المعارف

أضحت أهم مهام علم النفس المدرسي متجسدة في إيجاد حلول فعلية لمشاكل التمدرس واكتساب المعارف، حتى يتمكن المتمدرس من تعلم الاستراتيجيات اللازمة لإغناء مكتسباته وتحسين أداءاته بتوظيف تلك المكتسبات في شتى مجالات الحياة. وعليه سنحاول في هذا المقال الموجز أجرأة كل من مفهومي النمو والتعلم، مع مساءلة الروابط بينهما. ومكانة اكتساب المعارف بين النمو والتعلم، وكذا مدى تأثر التمدرس في هذا الاكتساب. لنصل في الأخير إلى مسعانا الأساسي ألا وهو الوقوف عند دور الاستراتيجيات في اكتساب المعارف.  

  1. النمو والتعلم في علم النفس
  2. دور التمدرس في اكتساب المعارف
  3. دور الاستراتيجيات المعرفية في اكتساب المعارف

علم النفس المدرسي

علم النفس المدرسي: التمدرس واكتساب المعارف

النمو والتعلم في علم النفس 

النمو تغير بنائي ووظيفي من حالة أولية إلى حالة نهائية نسبيا، يخضع لعاملي النضج والتعلم. حيث أن النضج يمثل ذلك الانتقال التابع للعوامل الداخلة سواء جينات مورثة أو استعدادات فطرية، أي كل ما هو داخلي من شأنه أن يهيئ لانبثاق سلوكات لا دور للتعلم في بنائها. كون هذا الأخير يتحدد في الانتقال الخاضع للعوامل الخارجية، أس أن التغيرات الحاصلة هنا لا ترتبط بالنضج وإنما متعلمة. لكن تجدر الإشارة إلى السجال القائم داخل الحقل السيكولوجي حول علاقة النمو (نضج) والتعلم إثر تباين مواقف النظريات السيكولوجية التي قاربت هذا الموضوع. ويمكن حصرها فيما يلي في أربع.

المقاربة الفطرية

في الاتجاه الفطري نجد أن Chomsky بنى حجته على فكرة قوامها أن كل بنية ذهنية وكل معرفة مركبة ذات تنظيم لا يمكنهما أن يتمخضا عن التجارب الحسية المحدودة التأثير، وعليه يجب النظر إلى اللغة أو العدد كعضو ذهني يماثل القلب الذي لا أحد يفترض أن وظيفته تتولد عن التجربة. إذن يتبين أن النمو سيرورة خاضعة لنضج داخلي لا يتأثر بالبيئة إذ تبقى مجرد محرك بسيط شانه دعم أو تعطيل النمو إلا أنه لا يفسد أبدا سياقه أو شكله النهائي. وبالتالي هنا يتم اختزال التعلم في النمو الشيء الذي يجعل من النمو سيرورة لاكتساب المعارف غير مشروطة بالتعلم وانما خاضعة لعوامل النضج.

المقاربة السلوكية

في مقابل المقاربة الفطرية نجد المقاربة الإمبريقية المتمثلة في المدرسة السلوكية التي اتخذت السلوك موضوعها الرئيسي وفق نمودج المثير والاستجابة واعتبرت التعلم تعديل في الاستجابات تبعا لإشراطات معينة (الاشراط الكلاسيكي Watson، الشراط الاجرائي Skinner، الاليات الترابطية Hull)، بالتالي السلوكات مشروطة بخصائص البيئة بمعزل عن الاستعدادات الفطرية والأنشطة الذهنية. إذن التعلم هنا هو سيرورة ميكانيكية ترابطية لاكتساب المعارف لا تتحدد لا بالسن ولا بعوامل النضج وانما بشروط البيئة ومحدداتها. يكون الفرد بمثابة مستقبل سلبي وكأنه صفحة بيضاء تسجل فيها المعارف الناتجة عن تجارب التعلم، ويصبح النمو نتيجة لمختلف التعلمات التي يعيشها الفرد في حياته. وعليه يتبين أن المدرسة السلوكية اختزلت النمو في التعلم كونه يظل رهين بتراكم وتنوع الاستجابات.

المقاربة البياجوية

إن القول بأحادية البعد أو اختزال الواحد في الآخر كما قالت به كلا المقاربتين السابقتين جعل تصورات أخرى تقر بثنائية البعدين النضج والتعلم في السيرورة النمائية، اذ لا يستقيم الاهتمام ببعد على حساب الاخر ما دمنا قد أكدنا دور كل منهما في سيرورة النمو. وهذا ما ذهب إليه التيار المعرفي سواء مع المقاربة البنائية التكوينية لبياجي أو السوسيوبنائية لفيغوتسكي.

أبان بياجي على النمو المعرفي كعملية لبناء المعارف تبعا لمراحل تدريجية تنحى منحى أكثر فأكثر تجريدا آخره البنيات المنطقية الرياضية ويتحدد بمستوى النضج، أي بميكانزمات عامة داخلية (فعل التوازن والضبط الذاتي) ولا يتأثر إلا في حدود نسبية جدا بالعوامل الخارجية. بالتالي هذه مراحل النمو المعرفي هي التي تحدد ما يمكن للطفل أن يتعلمه، فبالرغم من كون الطفل فاعل نشيط متفاعل مع المحيط إلا أن تعلمه يظل رهين بمستواه الفكري أي بنضجه. ومعه يتم اعتبار النضج والتعلم سيرورتان مستقلتان إلا أن التعلم يظل تابعا للنضج. هذا ما اوخذت عليه المقاربة التكوينية فبجعلها التعلم تابع للنضج تكون قد بخست من دور السياق والعلاقة التفاعلية بين النمو، النضج، والتعلم.

المقاربة السوسيوبنائية

في المقاربة السوسيوبنائية في علم النفس مع فيغوتسكي وبرونر يتم النمو السيكولوجي مرتبط الحياة الاجتماعية وبالتفاعلات بين الطفل والأكبر سنا منه. الطفل يعيش وسط مجموعات وبنيات اجتماعية يتعلم فيها من الآخرين عبر التفاعل معهم. وأن بالرغم من كون التعلم مرتبط بمستوى نمو(نضج) الطفل إلا أن التعلم الحقيقي والمفيد من خلال التفاعل مع الراشد أو مع أقران يكون سابقا للنمو ومؤثرا فيه. بالتالي هنا تصبح علاقة النمو تعلم علاقة تفاعلية. كما أنه وفق هذا الطرح يتبين لنا دور التمدرس في اكتساب المعارف لكن قبل الخوض في ذلك يجب الوقوف عند أوجه الاختلاف والتشابه بين النمو والتعلم للوقوف عند مكانه الاكتساب بينهما وفق المنظور المعرفي.

يمكن تمييز النمو عن التعلم وفق التصور الجديد بكون أن النمو سيرورة تاريخية لاكتساب ماكرو تكويني طويل ومعقد يتحدد بالسن ويهم المعارف العامة، فان التعلم سيرورة آنية لاكتساب ميكرو تكويني قصير ومبسط يتحدد بالمؤسسة ويهم المعارف الخاصة. أما فيما يخص نقاط التشابه نجد أن النمو والتعلم كلاهما سيرورتين لتحويل المعارف يصبح بموجبهما الفرد قادرا على القيام بمهامه بسهولة وسرعة أكثر، يقوم فيهما الفرد ببناء معارفه من خلال تفاعله مع المحيط. تحدثان في ذهنه على مستوى تمثلاته ومعارفه، فنظرا لطبيعتهما السيكولوجية نجدهما يتعلقان بكفاءات ومهارات ذاتية. بالوقوف عند نقاط التباين والتوافق هاته يتضح لنا أن أوجه الاختلاف بين النمو والتعلم تكاد تنصهر في التشابه بينهما كون المنظور الحديث يجعل من سيرورة الاكتساب عملية للنمو والتعلم ويبقى الاختلاف شكليا يتلخص في حجم الاكتساب لا في طبيعته.

علاقة التمدرس باكتساب المعارف

بالرجوع الى علاقة التمدرس واكتساب المعارف لا يمكننا اغفال أن المدرسة أضحت فرضا على كل الأطفال، اللهم من أعازتهم ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية وحالت دون ذلك. بالتالي لا يمكن الحديث اكتساب المعارف لدى الطفل دون الوقوف عند التمدرس ودوره في كل من سيرورتي النمو والتعلم. فيما يخص تأكيد تأثير التمدرس على النمو المعرفي يمكن استحضار دراسة Vygotsky التي أكدت نتائجها على الدور الإيجابي الذي تلعبه اللغة المكتوبة كنظام رمزي مجرد في تكوين السيرورات الذهنية العليـا. و Luria بعقده دراسة مقارنة باعتماد اختبارات تجريبية تهم الإدراك، اللغة، المفاهيم والاستدلال. توصل إلى أن المجموعة المتمدرسة تعاملت بطريقة مجردة مع الاختبارات في حين المجموعة غير المتمدرسة تعاملت مع الاختبارات بطريقة واقعية ملموسة. أما تأثيرالتمدرس على التعلم المعرفي يتضح بتميز التعلم المدرسي عن غيره. فبالرغم من أن اتجاه الكفاءات المبكرة كشف على أن للرضيع كفاءات فطرية أو مكتسبة قبل دخوله للمدرسة، وكما أكد اتجاه نظرية النظريات أن الطفل يكون نظريات حقيقية حول الذات والعالم. إلا أن المدرسة تساهم تطوير معرفة الطفل من معرفة ساذجة إلى معرفة علمية. أو بالأحرى تعلمه الاستراتيجيات اللازمة لإغناء مكتسباته وتحسين أداءاته بتوظيف تلك المكتسبات في شتى مجالات الحياة.

دور الاستراتيجيات المعرفية في اكتساب المعارف

قبل الوقوف عند دور الاستراتيجيات في اكتساب المعارف. يجب توضيح أن الاستراتيجية كمفهوم هي متوالية من الإجراءات لها هدف معين، قابلة للتحويل وتساعد في تعلم التعلم وحل المشاكل في المدرسة والحياة اليومية. ومنه يمكن تحديد استراتيجيات التعلم في الأفعال والإجراءات التي يوظفها المتعلم إزاء وضعية تعلم. رغم أنها تتفرع إلى أربع أنواع معرفية، ميتامعرفية، وجدانية، تدبير الموارد، وهذه الأنواع يمكن أن تنقسم إلى استراتيجيات التعلم المباشرة (التخزين/التكرار، البناء/البلورة، التنظيم، التعميم، التمييز) واستراتيجيات التعلم غير المباشرة (ميطا-معرفية، تأثيرية /وجدانية، تدبير الموارد)، إلا أن كلها تتميز بخاصية الوعي، القصدية والمرونة.

خلاصة

خلاصة القول، فعل التدريس الفعال لا يقف عند تلقين المعارف وإنما اكتسابها. بمعني تمكين المتعلم من الاستراتيجيات اللازمة لإغناء مكتسباته وتحسين أداءاته بتوظيف تلك المكتسبات في شتى مجالات الحياة.

 

تعليقات